دولتان على أرض مصر، ومصر مجرد نموذج: إحداهما لم تسقطها الثورة، وربما لا تسقط أبدا، والأخرى لم تقم بعد. ما يجعلنا نعيد -بمرارة- ذلك التساؤل عن ظاهرة التناسب العكسي الدائم بين حجم الثورات وأصالتها في مصر من جهة ومحصولها الفوري من جهة أخرى.
وهي ظاهرة قرأناها في دفتر أحوال ثورة 1919، التي لم تنتج -فورا- أثرا يذكر على بنية المجتمع. ثم رأيناها -أي الظاهرة- شديدة الوضوح بعد ثورة 25 يناير، الأهم في تاريخ مصر، والتي يرجح مجرى أحداثها حتى الآن أن وقتا طويلا سيمر قبل أن نرى أي تغيير حقيقي.
يمكننا إذن أن نعيد الجدل -الذي نشأ يساريا- عن الفرق بين مفهوم "الثورة الدائمة" التي لا تتوقف قبل أن تحقق "نصرها النهائي"، ومفهوم "الثورة على مراحل" الذي يزعم أنه بعد إقامة دولة عقلانية وديمقراطية، يصبح بالإمكان حل جميع القضايا بالطريق السلمي للتطور والإصلاحات. وهو جدل يقودنا إلى نفض اليد من فكرة "الثورة على مراحل" لأنها -كما أثبتت حوادث التاريخ- تعني "فرض الاستبداد بالتدريج".
كما يمكننا أن نوافق على ما طرحه اللواء "محمد علي بلال" قائد القوات المصرية في حرب الخليج الثانية، حين وصف إسقاط الرئيس السابق "حسني مبارك" بأنه "شبه انقلاب عسكري، تم بالتراضي أو متفق عليه. وكان هو المخرج الوحيد نزولا على رغبة الشعب".
ذلك أن إسقاط الأشخاص -أيا كان قدرهم وعددهم- مع بقاء بنية الدولة من دون تغيير هو انقلاب لا أكثر، أما الثورة فهي تغيير بعيد الأثر يعيد بناء النظام الاجتماعي، وعلى هذا فإن ما تحقق -في نتائجه- ليس أكثر من انقلاب، أما الثورة المصرية فإنها لم تحقق هدفها بعد.
وإذا أخذنا في حسباننا ما يشترطه البعض، من أن يكون التغيير الذي تحدثه الثورة "مفاجئا وسريعا" فإن الثورة المصرية لم تبدأ مرحلتها الحاسمة بعد. وهما عبارتان يمكن دمجهما إجمالا في أننا بصدد ثورة لم تصل إلى منجزها، لا بمعنى أنها على الطريق الصحيح لتحقيق هذا المنجز، بل بمعنى أنها تستكشف الطريق، وأنها بقدر ما يمكن أن تصل يمكن أيضا ألا تصل، برغم سطوع الانفجار الثوري وعظمة الحراك الشعبي.
ومرة أخرى أذكر بثورة 1919، التي يمكن أن ننسب إليها أثرا واضحا على ما تلاها من ثورات عربية، بل وعالم ثالثية كثورة "غاندي" في الهند، الذي صرح بأنه تأثر كثيرا بثورة 1919، وهكذا نقف مفتخرين بها. كما يمكن -بالقدر نفسه- أن نقف متحسرين على فقر المحصول "السريع والمفاجئ" لها.
لكننا -وقبل هذا كله- يجب أن نضع الثورة المصرية، ومن قبلها التونسية، ومن بعدهما الليبية واليمنية، ثم ما يستجد في إطار منظومة واحدة من "ثورة دائمة" تنطلق "عبر الخريطة العربية من أقصاها إلى أقصاها" كما ذكرت في مقالي السابق على "الجزيرة نت"، ويشكل انطلاقها مفاجأة مدوية للغرب، الذي كرر الوقوف مرتبكا في كل مراحلها، وتورط في الإجابة الخطأ على كثير من أسئلتها، على نحو ما يؤكد كتاب "الثورة في العالم العربي" الصادر عن مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، والذي ذكر أنه "حتى أولئك الذين كان من المفترض أنهم يعرفون ما يختمر به الشرق الأوسط من أوضاع مؤهلة للثورة، رفضوا الاعتراف بالثورة"، مع الإشارة إلي مواقف الإدارة الأميركية، خاصة التصريحات "الجاهلة" التي أدلت بها "هيلاري كلينتون" في 25 يناير، معربة عن تقديرها أن الحكومة المصرية مستقرة!
وهو خطأ تتأكد طبيعته "البنيوية" لا "العارضة" بالنسبة للذهنية الغربية حين نتابع تكراره -بالكيفية نفسها- عبر دول، مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة، تبدو وكأن مصالحها وارتباطاتها الجزئية، مع الأنظمة العربية التي استهدفتها الثورة، مختلفة. بل إن دولة تصنف "شرقية" و"أقرب إلى العرب" هي الصين، اتخذت مواقف عدائية واضحة ضد الثورة في العالم العربي.
ربما لأنها، وقد أصبحت منافسا رئيسيا ضمن "صراع الكبار" للسيطرة على الاقتصاد العالمي، تدرك أن الصراعات الداخلية في الدول المختلفة لا يمكن فهمها في إطار بسيط لا يتجاوز حدود الدولة، وإنما في إطار النظام العالمي، الذي كان -ومازال- يعبر عن قانون "التطور المركب وغير المتكافئ"، الذي يعني إمكانية تعايش شرائح، تمثل مراحل مختلفة من التطور، وتنمو بمعدلات مختلفة، داخل مجتمع واحد.
وبناء عليه فإن ميزان القوى بين هذه الشرائح يرتبط عضويا بموازين القوى المماثلة في دول أخرى، وأي تغيير "هنا" يرشح تغييرا "هناك". هذا ما لم يدركه الحكام العرب الذين راح كل منهم يقول، في صلف حد الغباء: لسنا تونس، ولسنا مصر! وهو ما أدركته "الصين" فلجأت إلى "القمع من نقطة مبكرة" واتخذت إجراءات رقابية صارمة، ومواقف عدائية أكثر صرامة ضد الثورة في العالم العربي.
لأنها -كالغرب- لا ترحب بقيام النموذج الذي تبشر به الثورة، ولا بسقوط نموذج الدولة الراهن، القائم في عدة دول استهدفتها الثورة، ذلك النموذج الذي سميته منذ المقال الأول المنشور على هذا الموقع "نموذج دولة محمد علي"، وملخصه أنه يتكون من "أقليات متساندة وفي القلب جنرال"، وهو نموذج قام في مصر مطلع القرن التاسع عشر، قبل انتقاله إلى عدة دول عربية، وكان قيامه امتثالا لحتمية فرضت نفسها على "محمد علي باشا"، الذي أراد الاستقلال بمصر عن ملك السلطان العثماني "خليفة المسلمين"، فكان عليه أن يجد لنفسه مرجعية غير مرجعية الخلافة، التي يلزمه -إن أقر بها- أن يحني رأسه أمام السلطان خاضعا له، مقرا بأنه متمرد لا أكثر، طامحا إلى عفوه، وطامعا في عطاياه.
وكلها أمور لم تكن لترد على خاطر "محمد علي" مجرد ورود، وكان الاعتماد على "الأقليات" في مواجهة "الأغلبية" هو الحل الذي تهيأ له "محمد علي" بحكم النشأة، وقادته إليه السليقة لا الدراسة، ذلك أن "الباشا" كان يمثل نقطة تقاطع عدة دوائر من الأقليات، فهو بين العرب تركي، وبين الأتراك ألباني، وبين الألبان ينتمي إلى جزيرة "كافالا" -أو "قولة"- ثم إنه بالنسبة لبلدته وأقرانه هو ذلك اليتيم الذي رباه عمه "طوسون" إلى أن قُتل بأمر الباب العالي! فتعهده رجلان، أولهما "شوربجي قولة" -أي حاكمها- الذي كان صديقا لأبيه "إبراهيم أغا"، فرباه مع ابنه تربية كانت أفضل ما يمكن أن يتاح لمثله، وإن خالطها بعض ذل السخرة والسخرية أيضا.
أما الرجل الثاني فهو "مسيو ليون" التاجر الفرنسي الذي أدار محلا تجاريا في قولة منذ 1771، وكان "الصدر الحنون" لـ"محمد علي" وصاحب الأثر الأكبر -ربما- في مستقبله وسلوكه. والذي دعاه "الباشا" للحاق بمعيته في مصر، في العام 1820، بمجرد أن استتبت قدماه في حكمها، ورد "ليون" على الدعوة بالإيجاب، لكنه مات قبل أن يلبيها.
هذه الدوائر المتداخلة من الأقلية هي ما ألهم "محمد علي" نموذج دولته، الذي يؤمن استبعاد الأغلبية بمفهومها الواسع "شعب دولة الخلافة" وبمفهومها المحلي "الجماعة المصرية وزعيمها عمر مكرم". مستعيضا عن -ومواجها- هذا وذاك بنموذج يعتمد في قلبه على القوة العسكرية "الجنرال الحاكم" وتدور في فلكه مجموعة من الأقليات تحرص كلها على بقاء الجنرال، وعلى ألا تصل بالصراع معه إلى مرحلة كسر العظام. وهي أقليات متنازعة: بحكم تكوينها، وبحكم الصراع للحصول على نصيب أكبر من كعكة الحكم. ومتساندة في الوقت نفسه: بحكم إدراكها أن أيا منها لا يمكنه -منفردا- الاحتفاظ بحصته من حكم انتزع انتزاعا من يد أغلبية، تحرص الأقليات والجنرال على بقائها مستبعدة.
من هنا ندرك سر هزال دور "الشعب" في إطار هذا النموذج، سواء من حيث "المشاركة" أم من حيث "الرقابة"، ذلك أن هذا الشعب، الذي تجري محاولة استحضاره عبر نصوص تفرغ دائما من محتواها، هو نفسه "الشعب الذي يقوم النظام -بنيويا- على أساس استبعاد أغلبيته، وتكوين تكتل ممالئ للجنرال الحاكم من أقلياته.
كما ندرك سر "سرعة العطب" التي تصيب النظام، الذي يقوده ضعف الرقابة نحو الفساد، ويسرع به ضعف المشاركة نحو الديكتاتورية، ما يجعله نظاما ضعيف الاستقرار، يحتاج للإصلاح باستمرار، ويستدعي الثورة بمعدل قياسي.
ولعل التشابه الكبير بين "نموذج دولة محمد علي" ونموذج "سلطة الاحتلال" هو ما جعل مقاومة المصريين تنتقل من النقيض إلى النقيض خلال 80 عاما لا غير. ذلك أن الشعب المصري الذي لم يقعد عن قتال الفرنسيين يوما واحدا، ولا اعتبر هزيمة الجيش النظامي في معركة إمبابة هزيمة له.
الشعب الذي واصل المقاومة ليقصر عمر الحملة الفرنسية إلى 3 سنوات (1798-1801م) لم ينعم فيها المحتل بالراحة، هو نفسه الشعب الذي قعد عن قتال البريطانيين أكثر من 70 سنة (1882-1954م). معبرا عن تحول مفتاحه هو دولة محمد علي التي حكمته بين الاحتلالين، واكتشف الشعب أنها لا تختلف كثيرا عن سلطة الاحتلال، أو أن الاحتلال لا يختلف كثيرا عنها، إذ لا اختلاف بين قبعة وطربوش مادام كلاهما يستبعد أغلبية الشعب.
وفي إطار هذا النموذج يمكن أن نفهم تكرار لجوء الجنرال، في مواجهة الثورة، إلى تجييش الأقليات العرقية والطائفية والقبلية، كما نفهم سر سقوط "سلطة الحكم" بمجرد نزول الأغلبية إلى الشارع، ومن دون أية مصادمات مسلحة -كما حدث في تونس ومصر- ذلك أنه، وفضلا عن اتجاه السلطتين إلى التوريث، على نحو ميع الطبيعة العسكرية للجنرال الحاكم، وأوجد خللا في بنية الأقليات المتساندة، فإن مجرد نزول الأغلبية إلى الشارع أسقط الركن الثالث من أركان هذا النموذج (ركن استبعاد الأغلبية) وجعل الإقدام على التضحية بأشخاص الموجودين في السلطة هو المخرج الوحيد في سبيل الحفاظ على نموذج دولة محمد علي كما هو، حيث يتجدد النموذج -في تونس وفي مصر أيضا- عبر أشخاص آخرين في سلطة تمثله، وتحمل خصائصه الأصيلة، مع كونها -في هذه المرحلة- أقل فسادا، وأقل ديكتاتورية.
وهكذا يراد لثورة الأغلبية أن تؤول -مرة أخرى- إلى دولة محمد علي التي ستواصل استبعادها، بالضبط كما فعل "الباشا" قبل قرنين من الزمان مع ثورة المصريين التي وضعته على أريكة الحكم في القلعة.
فهل تنجح "السلطة" في عزل "الشعب" مرة أخرى؟ أم تسعفنا "الثورة الدائمة" بحل آخر، يجعلنا نجمد هذه الاختلافات التفصيلية، التي طرأت على "نموذج دولة محمد علي" عند إقامته في ليبيا وفي اليمن وفي دول عربية أخرى تتأهب للثورة، كما نحمد الاختلاف بين نموذج هذه الدولة والنموذج الطائفي غير المتوازن القائم في العراق مثلا، لأن هذه الاختلافات في تفاصيل النموذج، وتلك النماذج المختلفة، تؤمن اختلافا في جدول عمل الثورة من دولة إلى دولة، يضمن استمرار "ثورة عربية دائمة" في إطار قانون "التطور المركب وغير المتكافئ"، وبناء على الترابط العضوي بين موازين القوى داخل أي دولة عربية، وموازين القوى المماثلة في بقية دول عالمنا العربي؟
0 التعليقات
إرسال تعليق